سورة المنافقون - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المنافقون)


        


{إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)} [المنافقون: 63/ 1- 6].
فضح اللّه تعالى بهذه الآيات سرائر المنافقين، فإنهم إذا جاؤوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كابن أبي وأتباعه كذبوا وقالوا: نحلف بأنك رسول اللّه إلى الناس كافة، وهم في إخبارهم هذا كاذبون، لإخبارهم بضد ما في قلوبهم، واللّه يعلم بصدق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في رسالته، وهو ما تضمنه كلامهم، واللّه يقسم بأن المنافقين لكاذبون في أيمانهم.
وقوله: {يَشْهَدُ} ونحوها من أفعال اليقين والعلم بمنزلة القسم.
إنهم جعلوا أيمانهم الكاذبة وقاية وسترا لحماية أنفسهم من القتل والأسر، وأموالهم من الأخذ، كما يفعل بالأعداء المقاتلين، فاغتر بهم من يجهلهم، وظنوا أنهم مسلمون، وشككوا غيرهم بحقائق الإيمان والجهاد، ومنعوهم من الإسلام والطاعة، إنهم ساء ما عملوا ويعملون. فهم في هذا أجرموا بجرمين كبيرين: الحلف بالإيمان الكاذبة، والصّد عن الدخول في الإسلام، ومنع الاسهام في الجهاد في سبيل اللّه، فكانوا أقبح الناس. والمراد: صدّوا غيرهم ممن كانوا يريدون الإيمان بسبب تشكيكهم ودسائسهم المنكرة.
وأسباب هذا الموقف وافتضاح اللّه لهم وتوبيخهم: أنهم آمنوا نفاقا، ثم كفروا حقيقة، فختم اللّه على قلوبهم بسبب كفرهم، فلا يدخلها إيمان، ولا تهتدي إلى حق، ولا ينفذ إليها خير، فأصبحوا لا يفهمون ما فيه رشدهم وصلاحهم، ولا يدركون أدلة صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في رسالته.
ثم وبّخهم اللّه لأنهم كانوا رجالا فصحاء ووجهاء، فكان منظرهم يخدع، فإذا نظرت إليهم أعجبتك هيئاتهم، وإن تكلموا سمع كلامهم، وظنّ السامع أنه حق وصدق، لفصاحتهم، وذلاقة ألسنتهم، كأنهم في الواقع أخشاب جوفاء منخورة مستندة إلى الحيطان، ومجرد كتل بشرية لا تفهم ولا تعلم.
وهم مع جمال هيئاتهم، ومناظرهم في غاية الجبن والضعف، يظنون كل صوت عال أنه واقع بهم، لفراغهم النفسي وترددهم وقلقهم وخوفهم المسيطر عليهم، وانهزامهم الداخلي، فهم الأعداء الألدّاء، فاحذر مؤامراتهم، ولا تطلعهم أيها النّبي على شيء من الأسرار، لأنهم جواسيس للمشركين والكفار، لعنهم اللّه وطردهم من رحمته، وأهلكهم، كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل والضلال. وكلمة (قاتلهم):
كلمة ذم وتوبيخ للتعجب، أو إن القتل مستعمل في اللعن والطرد، على سبيل الاستعارة التبعية لعلاقة المشابهة، في أن كلّا منهما نهاية الشدائد والعذاب.
وإذا طلب منهم بقيادة زعيمهم عبد اللّه بن أبي أن يأتوا لرسول اللّه ليطلب لهم المغفرة من اللّه، أعرضوا واستكبروا واستهزءوا، ورأيتهم يعرضون إعراضا شديدا، مع إمالة رؤوسهم، ويمنعون عن سبيل اللّه غيرهم، فلا يتركونهم يؤمنون، وذلك في حال من الاستكبار والأنفة.
أخرج ابن جرير عن قتادة قال: قيل لعبد اللّه بن أبي: لو أتيت النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فاستغفر لك، فجعل يلوي رأسه، فنزلت فيه: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ } الآية.
وهذا دليل على إعراضهم عن الاعتذار.
والاستغفار في الواقع لا ينفعهم، فسواء استغفرت لهم أيها الرسول أم لم تستغفر لهم، لن يغفر اللّه لهم لإصرارهم على الكفر والنفاق، ولا يجديهم الاستغفار شيئا، ما داموا على النفاق، إن اللّه لا يوفق الخارجين عن الطاعة، المنهمكين في المعاصي، المظهرين خلاف ما يبطنون، واللّه لا يغفر لهم دون حدّ في الاستغفار، وذلك ناسخ في رأي بعضهم لآية الاستغفار سبعين مرة بدليل حديث: «لو علمت أني لو زدت غفر لهم».
أخرج ابن جرير عن عروة قال: لما نزلت {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التّوبة: 9/ 80]. قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «لأزيدن على السبعين» فأنزل اللّه: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية.
وقد حاول عبد اللّه بن أبي أثناء خروجه لغزوة بني المصطلق إيقاع الفتنة بين المهاجرين لسبقهم إلى ماء بلغوا إليه، وبين الأنصار، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: «ما بال دعوى الجاهلية؟» فلما أخبر بالقصة قال: «دعوها فإنها منتنة».
من أسباب النّفاق:
النّفاق مرض عضال خطير بالنسبة للأمة، لأنه يزعزع أوضاع الجبهة الداخلية أو ما يسمى حديثا بالوحدة الوطنية، أما بالنسبة للمنافقين فهو داء نابع من الجبن والسخف، وضعف الإدراك والملكات العقلية، لأن النفاق لابد من أن يظهر أثره، ويفتضح شأن صاحبه. ولكن منافقي المدينة في الماضي انضمّ إلى نفاقهم استكبار أو استعلاء، وظنوا أن لهم قوة يتمكنون من تهديد بقية الأمّة، فأعرضوا عن الاعتذار ولم يوافقوا على طلب الاستغفار، وحجبوا المعاونة عن المهاجرين حتى يموتوا جوعا، وصمموا بعد وقعة بني المصطلق (قبيلة من اليهود) على طرد المؤمنين من المدينة، وأحجموا عن الإنفاق في سبيل المصلحة العامة أو الخير، كما يتبين من منطوق الآيات الآتية:


{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)} [المنافقون: 63/ 7- 11].
أخرج البخاري وأحمد والترمذي وغيرهم عن زيد بن أرقم قال: سمعت عبد اللّه ابن أبي يقول لأصحابه: «لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتى ينفضّوا، فلئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ»، فذكرت ذلك لعمّي، فذكر ذلك عمي للنّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فدعاني النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فحدّثته، فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى عبد اللّه بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذّبني، وصدّقه، فأصابني شيء لم يصبني مثله، فجلست في البيت، فقال عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومقتك، فأنزل اللّه: {إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ} فبعث إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقرأها، ثم قال: «إن اللّه قد صدّقك».
هؤلاء المنافقون يقولون للأنصار: لا تطعموا أصحاب محمد المهاجرين، حتى يجوعوا ويتفرّقوا عنه. فردّ اللّه عليهم بأن اللّه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين، وبيده مفاتيح أرزاق العباد، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ولكن المنافقين يجهلون أن خزائن الأرزاق بيد اللّه، فظنّوا أن اللّه لا يوسّع أو يعوّض على المؤمنين ما فقدوه أو تركوه من أموالهم في مكة.
والأظهر أن الخزائن أشياء مخلوقة موجودة، يصرّفها اللّه تعالى حيث يشاء.
هؤلاء المنافقون: هم الذين يقولون- والقائل زعيمهم عبد اللّه بن أبي-: لئن عدنا من هذه الغزوة- غزوة بني المصطلق- إلى المدينة، ليخرجن الأعزّ (أي نفسه) منها الأذلّ (أي الرسول والمؤمنين)، ولم يلبث بعد أن رجع زعيم النفاق ابن أبيّ إلى المدينة أياما يسيرة، حتى مات، وردّ اللّه على المنافقين: بأن لله وحده القوة والغلبة، ولمن منحها من رسله وصالح المؤمنين، لا لغيرهم، ولكن المنافقين لا يعلمون أو لا يدرون ذلك. وفي ذلك وعيد لهم.
ثم حذّر اللّه المؤمنين من التشبه بالمنافقين، فقال: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ} أي يا أيها المصدّقون بالله ورسوله، لا تشغلكم الأموال وتدبيرها، عن القيام بذكر اللّه تعالى من التوحيد والصلاة والدعاء وغير ذلك من تسبيح وتحميد وتهليل، وأداء الفرائض الأخرى غير الصلاة. ومن يتلهى بالدنيا ومتاعها وزخارفها، وينصرف عن الدين وطاعة ربّه، فإنه من الخاسرين، الكاملي الخسران، الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، لأنه باع خالدا بفان زائل، وهذا تحذير وتوعّد وتخويف. والأظهر أن (ذكر اللّه)، هنا عام في التوحيد والصلاة والدعاء وغير ذلك من فرض ومندوب.
ثم حثّ اللّه المؤمنين على الإنفاق في طاعته ونشر دينه وجهاد عدوه، فقال: {وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ} أي وبادروا إلى الإنفاق من بعض ما رزقناكم، في سبيل الخير العام، شكرا على النعمة، ورحمة بالفقراء، ورعاية للمصلحة العامة العليا، من قبل مجيء أسباب الموت ومشاهدة علاماته، فيقول الواحد منكم: هلا أمهلتني يا ربّ، وأخّرت موتي إلى مدة أخرى قصيرة، فأتصدّق بمالي، وأكن من الصالحين المستقيمين. وهذا دليل على أن كل مفرّط أو مقصّر في عمل الخير يندم عند الاحتضار.
وقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ} الأظهر أنه عام في كل مفروض ومندوب.
وكذا قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} ظاهره العموم. وقوله تعالى: {يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي علاماته وأوائل أمره. وقوله: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} مطالبة بالعودة إلى الدنيا والإمهال.
ولن يؤخر اللّه تعالى أي نفس عن الموت أو قبض الروح إذا حضر أجلها، وانقضى عمرها، واللّه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم عليها، بالخير خيرا، وبالشّرّ شرّا. وهذا حضّ على المبادرة لعمل الخير، ومسابقة الأجل بالعمل الصالح.
إن النّدم من أي إنسان على التفريط وطلب العودة إلى الدنيا لتدارك التقصير عما فاته، لا يفيد الإنسان شيئا، فلات ساعة مندم، فقد تم القضاء، ونفذ الأمر، ولا أمل في النجاة إلا بالعمل الصالح.